الزمن الجميل هل سيقولها جيل الأنترنيت ؟
وأنا في مطبخي الهاديء أغمس يدي في كيس طحين صغير أصنع منع عجين طلبها أبني ليكون عشاءه المفضل ( البيتزا ) المقلاة على نار هادئة، زارني طيف جميل من زمن جميل، لا أدري ما الذي استدعاه وأي صورة رأيتها استحضرت خيوطه عندما كنت طفلة أراقب أبي باستمرار وهو لا يشعر، الطيف هو مشهد أبي عافاه الله وهو يقف في سطح بيتنا الكبير مستنداً على سياج داخلي يشرف على شارع جميل من شوارع بغداد الرائعة، وفي يده جهاز المذياع الصغير يستمع إلى نشرة أخبار المساء التي اعتاد عليها من صوت العرب من القاهرة. ولا أصدق وأنا أتذكر تماماً صوت المذيع ذي النبرة المتميزة وهو يطيل كلمة القااااهرة وعندها تذكرت ملامحه وهو يشرد بعيداً وأحياناً يغلق المذياع وهو يتذمر من الأخبار مع نفسه بصوت عال ٍ ولا أفهم ما الذي سمعه ولا يهمني سبب انزعاجه، إلا أن ذلك الزمن كان جميلاً ليس فيه أحاديث عن السياسة ولا عن الديمقراطية، ولا ما هي الديكتاتورية في زيارات الأقارب والأصحاب، فلم تك والدتي تهتم سوى بما ستحضره لهم من عشاء، فعادتنا في العراق أن يتناول الزوار وجبة دسمة وهي ما زالت إلى الآن رغم صعوبة العيش وقلة البركة، هذا رغم زيادة الرقم الذي يتقاضاه العراقي بأضعاف مضاعفة . هو زمن جميل مضى، لم تضطر والدتي فيه يوماً أن تفكر بالاحتلال ولا بما تفعله الحكومة من ممارسات، ولا بما أصدرت من قرارات فهذه الأمور للرجال، ولها أمور مختلفة عليها أن تجهد نفسها فيها، وهي أمور تجديد البيت حتى لو كان في تغيير الستائر، وأخرى في التفكير بما ستحضره من مستلزمات لسفرنا في العطلة الصيفية إلى بلاد الشام، وأيضاً وهي الأهم ما ستحضره من أطايب الطعام في زيارة صاحباتها كجلسة نسائية ناعمة يتباهن فيها بالثياب والذهب ونجاح الأولاد، فهذه كانت حياتنا .
لم نشعر حينها بأي خطر ولا عرفنا فيها حرقة الدم مما نقرأه اليوم في الأنترنيت، ولا شعرنا بسلطة القنوات الفضائية علينا وهي تقتحم بيوتنا عنوة، بل وترغمنا على أن تكون حاضرة في أكثر من غرفة، بكل ما فيها فساد كبير مقابل إصلاح قليل في قنواتنا الدينية التي تجاهد بصعوبة من أجل البقاء .
ما الذي يجبرني أن أستمع للأخبار وأن أحترق للانتخابات ؟ ما الذي يسحبني من فراشي تاركة أوقات القيلولة حتى أدفع شبهة تطعن في خير السلف ؟ لماذا لا أكتفي بأواني المطبخ وليحترق الشارع ما دمت أغلق بابي ؟ أليس هو العدو الذي كسر جدراننا وانتزع منا السلام الذي كنا نعيش فيه ؟ أليس هو من دخل إلى بيوتنا عنوة غير مذاق خبزنا وطعم فراتنا العذب؟ فأصبح في قناني نعطش كلما شربنا منها مضطرين لأنها ( أصفى ) ! يا أختاه لا تنفع الغفلة ولا فائدة من غرس رؤسنا تحت الرمال كالنعام نوهم أنفسنا بأنها ( أزمة وتعدي ) و( ما لنا علاقة ) لأننا كلنا مستهدفون في العراق وباقي بلدان العرب، والزمن الجميل انتهى، لأن غرباء عشعشوا بيننا وكبروا وأخذوا مكاناً أوسع. ومن أين ؟ غير من حصة رجالنا وأولادنا في المستقبل . فما العمل؟
الزمن الجميل عبارة لن يقولها جيل الأنترنيت، فلا جميل نراه، رغم ما يظنه الكثير من شباب العرب وهم يتمايلون على عشرات الأغاني الرقيقة، ويتبضعون من أسواق كبيرة تعج بالموديلات التي لا يهم ثمنها ما دامت عندهم من ضروريات الحياة .
هذه الحياة الجديدة التي يجب أن تتوفر فيها الهاتف النقال لكل فرد من العائلة، حتى سمعنا أنها انتشرت بين الأطفال في سن الدراسة الابتدائية . وعجبي كيف لا يقوى الآباء على مقاومة غربنة العرب ومسخ حياتهم بحجة التطور، وهم يرون أن مضارها أكبر من نفعها، والداخل في بحر عليه أن يقاوم الموج وإلا غرق، فالغرب لم يصدر لنا سوى القشور، أما ما لديهم من خبرات وعقول فبمقابل أموال مضاعفة مقارنة بما يستلمها لو كان في بلده كإضافة لازمة من منصب رفيع يتحكم في القرارات! وهو في بلده لا أكثر من موظف، لا يملك نصف غرفة له ولا حتى لقطعة على مكتبه تنقش فيها أسمه ووظيفته، فكيف سمحنا لاحتلال بهذا الشكل المخيف أن نرضاه بإرادتنا؟ ولا نفكر للحظة أن هناك عدو يحيط بنا وينشر أذرعه كأخطبوط في قاع البحر يتحرك بسرعة وهدوء، يتحسس بفريسته التي وقعت تحت سيطرته كألتصاق الغرى لا فكاك منه . إن استيراد العقول من الغرب ليس عيباً، لكن يجب أن يكون بصورة مدروسة، لا على غير أسس كالتي يجري عليه في الإمارات على سبيل المثال، فنسمع أن موظفة صغيرة في بريطانيا أصبحت بقدرة قادر مديرة قسم، بأمرتها سيارة وسائق تأمر وتنهي لأن عندها مؤهل وهو جنسيتها، بينما هناك من العرب ما يفوقها علم وخاصة من العراقيين الذين هم في غالبيتهم مهجرون، أكفاء حاصلون على شهاداتهم من أمريكا وأنكلترا وفرنسا وغيرها هذه ليست دعاية، ولكنها حقيقة يعلمها الجميع، ولا يدرك خطر تسليم الأمور بيد الأجنبي ولا حتى تنبه إلى الخطر الأكبر منه وهو قلة الشهادات في الاختصاصات العليا في دول الخليج بين شبابهم فقد دُهشت عندما علمت أن أغلب الشباب يفضلون دراسة علوم المحاسبة والاقتصاد (أو ما يسمى بالتجارة) على علوم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء، فهل وعى الآباء هذا الخطر؟
هل يعلم أن المستقبل أصبح عند العرب عبارة عن سوق استهلاكية تسحب أرباح الشركات التجارية التي يحرق فيها الأب يومه حتى الليل لتذهب إلى خزينة الغرب في فترة الاصطياف ؟ بل هل فطن أهلنا في الخليج أنهم محتلون حين يلبسون زيهم العربي من مصانع غربية ؟
الاستعمار بدأ منذ عقود حين دخلت القنوات الفضائية والأنترنيت إلى بيوتنا كمظهر للحضارة والتقدم ! . إن هذه التطور الحضاري الذي لم نكن نعرفه في العراق، لم يعيقنا في بناء ولا في علم ولا في تكوين أسر حميمة، عندما لم يكن وجود للهاتف النقال ولا باقي الشرور، ما الذي استفدنا ؟ نعم استفدنا من الهاتف النقال عندما نستعمله لنطمئن على وصول الزوج والولد والبنت إلى مكانهم في العمل والدراسة وسط التفجيرات، واستفدنا من القنوات الفضائية حين صرفنا ساعات نستمع إلى برامج للحوار الاجتماعي الواحدة تناقض الأخرى، فلا استقروا على رأي ولا أراحونا من السجال ، واستفدنا من الأنترنيت أن علمنا كم أن العالم يموج في الفتن والعرب يتخبطون في وسائل الترفيه التي تعالت فوق أصوات الداعين إلى الدين. إنها حضارة قاتلة في حجم ضررهـا وسرعة انتشارها، فهي مثل أوبئة غربية جديدة كالتي تستعمل في الحروب البايولوجية لتفتك بالجنس البشري على أوسع نطاق، ولاتعجبوا من وصفي هذا، فالاستعمار وهم اليهود ومن يقابلهم في أهدافهم من المدعين أنهم على دين الإسلام عَلـِمَوا أن الأسلام قوي وقوته تكمن في عقيدته والتزام الأفراد بها وأيقن بالتجربة على مر التاريخ من غزو واحتلال وقمع، أن هذه العقيدة ونمط الحياة المتعلق بالأرض الأشبه بالحياة الريفية، هو قلعة محصنة لاتفلح معها الحروب الميدانية لأن العدو سيكون الخاسرالوحيد فيها، لذا فقد عمد الى اللجوء الى استعمار ذكي سريع الانتشار ونظيف لا خسائر فيه ، وهل هناك أفضل من الأستعمار الفكري ؟ فالجزائر مثال واحد يبين ما أقصد بطريقة عملية ، فالخسائر البشرية بين الشعب الجزائري كانت كبيرة، ووصفت الجزائر ببلد المليون شهيد، ولكن ليست هذه الخسائر خطيرة بخطورة المناهج التي فرضت عليهم باللغة الفرنسية وأساليب محو التراث الفكري بحرق الكتب وقتل الأدباء، وقد أمتدت أضرارها الي يومنا هذا، حيث نرى اللكنة الصعبة التي بالكاد يتبين فيها حرف الضاد وحروف أخرى. إن ما يجري في العراق الآن تكرار لما حدث هناك وأفظع بكثير، فالقتل جاري بيد احتلالين، والغزو على قدم وساق دخل للبيوت والمناهج في قيد التغيير، فلا جهاد مسموح لفظاً ولا عملاً، وهناك في جعبتهم المزيد .
إن من يرى أن الأنترنيت والقنوات الفضائية لاعلاقة لهما بالمخططات الأستعمارية لبلادنا وأن هذه مبالغة وحسناتهما أكبر من نفعهما فهو مخطأ، لأن الأسهم الأكبرعدداً التابعة لشركات الأنترنيت والأقمار ومساعداتها هي من نصيب أثرياء اليهود والامريكان لا فرق، فهم الذين يتبنون هدف أسرائيل في السيطرة على الوطن العربي وتدمير الدين والاخلاق فيه بشتى الطرق والبرامج التي تزج الجموع للاشتراك فيها، ويكفي أن نلقي نظرة على كتاب (الأيدي الناعمة ونواعير الدم) للكاتب العراقي (محمد حسين الفلاحي) لنرى التطابق . هذا الكتاب القيم الذي يشرح فيه الخطر الحقيقي لليهود بصياغتهم بنود الفساد العالمي في (بروتوكولات صهيون، البوتوكول الثالث عشر) وفيه نصاً وهو التالي :
(لكي نبعد الجماهير عن أن تكتشف أي خط عمل جديد سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومزاجيات الفراغ والمجامع العامة ..الخ وسرعان ما سنبدأ الأعلان في الصحف داعين الناس الى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات كالفن والرياضة وما أليها . هذه المتع الجديدة ستلهي ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها معه ، وحالما يفقد الشعب تدريجيا ًنعمة التفكير المستقل بنفسه سيهتف جميعا ًلسبب واحد هو أننا سنكون أعضاء المجتمع الوحيدين الذين يكونون أهلاً لتقديم خطوط تفكير جديدة) .
لا أقولُ أن جيلنا كان مثالياً ، أبداً فقد كان فيه من الأنحراف أشكال عديدة شأنه شأن أي جيل ولكن كان الولوج في الأنحراف أقل سرعة منه الآن، ليس لنباغة جيلنا بل لأن المغريات ووسائل اللهو لم تكن في متناول الفرد بيسر وهو في داره ، فمن كان يروم اللهو العابث كان حتماً يحضر له بخطوات ربما تطول زمنياً حتى يتوفر المحيط الآمن لذلك ، ولحسن الحظ هذا ما كان سببـاً للبعض كي يتدارك الانزلاق لصعوبة الظروف المحيطة به، فيعود ربما بحسرة أو حامداً الله على عدم تسرعه فيما بعد، وإلا كان في موارد الهلاك .
أما الآن فأننا نعيش في عصرالسرعة المتناهية، فلا يوجد لشبابنا فرصة حتى في التفكير والتدارك ، فأينما وجه وجهه رأى علامات ساطعة تقدم له دعوة للدخول كما في القنوات الفضائية العربية، وللأسف باتت تعلن عن مسابقات رقص وغناء ولاحول ولاقوة إلا بالله ، صار تقليداً أعمى عن القنوات الأجنبية لما تدره من أرباح وأن من أخطرها تلك المسابقات التي تجمعهم في بيت واحد يقيمون فيه ليل نهار ولفترة طويلة ضاربين بعرض الحائط المباديء الأسلامية وحتى المسيحية منها ، وكل ذلك يجري بعلم الأهل وبمساعدتهم الذين يتصلون فخورين بأبنائهم لأنهم رفعوا رأس العائلة عالياً ! . أين مسؤولية الآباء في التوعية والمراقبة ؟ والتي تأتي في الدرجة الأولى في المجتمع بعد المدرسة ــ وهي مسؤولية الدولة ــ فإدارة المدارس ومدرسيها هم الراعون، من أدناها مرحلة حتى التعليم العالي، فأين الضوابط وتعاليم ديننا الإسلامي الذي لا يتعارض في أساسياته الأخلاقية مع باقي الأديان كتعاليم أمر بها الرسل؟ لكن يأتي التعذر من الآباء سريعاً بوجود مشاغل كثيرة من توفير المادة ومستلزمات الحياة اليومية أبعدتهم عن رقابة أولادهم، وهي حجة كل الأزمان على الأطلاق .
من المعروف أن الشخصية للفرد تكتسب بالمعرفة والثقافة وبتأثير الأهل من حيث سلوكهم وتعاملهم بين بعضهم الآخر، فإن كان نمط العائلة عبثي غيرعلمي نشأ الأبناء على ذلك منذ الصغر، ولو فطن الأبناء الى ضرورة تعديل مسارهم فيما بعد لتدارك حياتهم مستقبلاً فسيجدون صعوبة بالغة لعدم وجود جذور حقيقية لذلك في ذاكرتهم التي تساعدهم في تقبلها كصور مألوفة لديهم . أننا وللأسف لم نعد نرى المطالعة موجودة في برنامج العائلة اليومي، فالأب لا يطالع جريدة في كرسيه أمام الأولاد بل نراه يتتبع الأخبار من القنوات الفضائية، ولا نرى الأم تجلس تقرأ كتاب ديني أو تاريخي أو غيره وتحرص على جعل الأولاد يحترمون وجود الوقت المخصص للمطالعة قدر الأمكان إلا نادراً وللأسف، فقد أصبح هذا المنظر من المناظر شبه المندثرة فعلاً فلا وجود لشيء أسمه المكتبة البيتية بل هناك أدراج (لسيديهات) أي أقراص تحميل ألكترونية على أختلاف أنواعها العبثية .
والأدهى لا نرى دور لمؤسسات عربية كبيرة كجامعة الدول العربية تبدأ بعمل مباشر جماعي بعد مسخ مجتماعتنا العربية وخاصة في العواصم، فلا هي عربية أصيلة ولا غربية بحتة، بل تزاوج بين مخلوقين لا عوامل مشتركة بينهما فما الذي سينتجه ؟ وهناك مؤتمرات الأديان والتقارب القاتل الذي يجري على قدر وساق لم تردم هدم، ولا أبدلت مفسدة بمنفعة، ولا وضعت شروط تجعل من العرب لهم زمام الأمور أمام المد الصفوي وأمام تسلط الغرب اليهودي، فهل هذه آثار الوهن ؟ وهل للقروض الأمريكية دور في تحرك حكامنا تحرك الخجول كمن له ذنب؟ أم يا ترى خلطت الأمور؟ لا أقول إلا هداهم الله لما يرضيه وحفظ العرب من شر قد اقترب .
وربما يستحسن أن أعود لأكمل لولدي طعام العشاء البيتزا بالطاوة ،،،
واستحلف الذكريات أن تعيد معها نسمة من نسائم ذلك الزمن الجميل النظيف حتى بهواءه .
وشكراً لتحملكم أعزاءنا العرب .
ــــــ
24/3/2010
/ الصورة المرفقة / المتحف البغدادي ( متحف الشمع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق